يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ [الأنفال:15-16].
يقول تعالى مُتوعدًا على الفرار من الزحف بالنار لمن فعل ذلك: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا أي: تقاربتم منهم، ودنوتم إليهم، فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ أي: تفرّوا وتتركوا أصحابكم، وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أي: يفرّ بين يدي قرنه مكيدةً؛ ليُريه أنَّه قد خاف منه فيتبعه، ثم يكر عليه فيقتله، فلا بأسَ عليه في ذلك، نصَّ عليه سعيد بن جبير والسّدي.
وقال الضَّحاك: أن يتقدّم عن أصحابه ليرى غرّةً من العدو فيُصيبها.
أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ أي: فرَّ من هاهنا إلى فئةٍ أخرى من المسلمين يُعاونهم ويُعاونونه، فيجوز له ذلك، حتى لو كان في سريةٍ ففرَّ إلى أميره أو الإمام الأعظم دخل في هذه الرُّخصة.
قال الإمام أحمد: حدثنا حسن: حدثنا زهير: حدثنا يزيد ابن أبي زياد، عن عبدالرحمن ابن أبي ليلى، عن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما قال: كنتُ في سريةٍ من سرايا رسول الله ﷺ، فحاص الناسُ حيصةً، فكنتُ فيمَن حاص، فقلنا: كيف نصنع وقد فررنا من الزحف وبُؤْنَا بالغضب؟ ثم قلنا: لو دخلنا المدينة فبتنا. ثم قلنا: لو عرضنا أنفسنا على رسول الله ﷺ، فإن كانت لنا توبةٌ وإلا ذهبنا. فأتيناه قبل صلاة الغداة، فخرج فقال: مَن القوم؟ فقلنا: نحن الفرَّارون. فقال: لا، بل أنتم العكَّارون، أنا فئتكم، وأنا فئة المسلمين. قال: فأتيناه حتى قبّلنا يده.
وهكذا رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه من طرقٍ عن يزيد ابن أبي زياد، وقال الترمذي: حسنٌ لا نعرفه إلا من حديث ابن أبي زياد.
ورواه ابنُ أبي حاتم من حديث يزيد ابن أبي زياد، به، وزاد في آخره: وقرأ رسولُ الله ﷺ هذه الآية: أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ.
قال أهلُ العلم: معنى قوله: العكَّارون أي: العطَّافون.
الشيخ: العطافون بالعطف: عطفوا على إمامهم.
وكذلك قال عمر بن الخطاب في ابن عبيد لما قُتل على الجسر بأرض فارس؛ لكثرة الجيش من ناحية المجوس، فقال عمر: لو تحيّز إليَّ لكنتُ له فئة. هكذا رواه محمد بن سيرين، عن عمر.
وفي رواية أبي عثمان النَّهدي عن عمر قال: لما قُتل ابن عبيدٍ قال عمر: أيّها الناس، أنا فئتكم.
وقال مجاهد: قال عمر: أنا فئة كل مسلمٍ.
وقال عبدالملك بن عُمير: عن عمر: أيّها الناس، لا تغرّنَّكم هذه الآية، فإنما كانت يوم بدرٍ، وأنا فئة لكل مسلمٍ.
الشيخ: والمقصود من هذا أنَّ الواجب على المجاهدين إذا التقوا مع عدوهم الصَّبر والصّمود والثَّبات؛ ولهذا قال جلَّ وعلا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ناداهم اللهُ باسم الإيمان، فلا بد من الثَّبات والصبر على لقاء العدو، وزَحْفًا كل فئةٍ تزحف إلى الأخرى –الجيوش-، هكذا كلٌّ يزحف ..... صاحبه ينتظر الفرصة ليتمكّن.
هذا الواجب على أهل الإسلام: ألا يفرّوا، وأن يصمدوا، فالصبر والثَّبات عونٌ للمسلم على إدراك ..... إلا المتحرف لقتالٍ ينظر: هل هذا الجانب أصلح، أو هذا الجانب أصلح؟ أو كونه يتقدّم من هنا، أو من هنا، يتحرّى، ينظر ما هو الأصلح، فلا بأس بالتَّحرف للقتال، لا الفرار، بل يتحرى وينظر ما هي المصلحة: هل يكون في الجانب الأيمن، أو في الجانب الأيسر، أو في القلب؟ ما هو أصلح: أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ ينتقل من فئةٍ إلى فئةٍ، والمجاهدون فئات، فينتقل من فئةٍ إلى فئةٍ، فهذا لا بأس، أو إلى الإمام الأعظم الذي هو فئته؛ لأنَّه رأى أن لا حيلةَ إلا الفرار إليه.
وحديث أنا فئتكم فيه ضعفٌ؛ لأنَّ ابن أبي زياد فيه ضعف، لكن يتأيّد بأثر ابن عمر، وبالمعنى أيضًا: فإنَّ المسلم قد لا يتحمّل الصمود لكثرة العدو فيفرّ إلى إمامه ومرجعه.
س: ..............؟
ج: أبو عبيدة غير ابن عبيد، أبو عبيدة لم يُقتل، أبو عبيدة ابن الجرَّاح كان أمير الأربع، لكن مات بالطاعون سنة سبع عشرة، وابن عبيد هذا أحد الأمراء، غير أبي عبيدة.
س: حكم مَن فرَّ من القتال؟
ج: معصية، من الكبائر.
الشيخ: انظر: حسان بن عبدالله في "التقريب"، حسان بن عبدالله، وخلاد بن سليمان، انظر "التقريب".
مُداخلة: توجد حاشية للشيخ مُقبل، يقول: أثر ابن عمر رجاله ثقات غير حسان بن عبدالله المصري، فقال أبو حاتم: صدوق. راجع كتاب "الجرح والتعديل" فالأثر حسن.
الشيخ: وفَّقه الله، نعم، يمكن.
الطالب: حسان بن عبدالله، الأموي مولاهم، المصري، مقبول، من السابعة. (النَّسائي).
الشيخ: هذا "التقريب"؟
الطالب: إيه، نعم.
الشيخ: وعندك أيش يقول؟
الطالب: يقول: أثر ابن عمر رجاله ثقات غير حسان بن عبدالله المصري، فقال أبو حاتم: صدوق. راجع كتاب "الجرح والتعديل" فالأثر حسن.
الشيخ: أعرض عن كلام صاحب "التقريب".
الطالب: في واحدٍ قبله: حسان بن عبدالله بن سهل، الكندي، أبو علي، الواسطي، نزيل مصر، صدوق، يُخطئ، من العاشرة، مات سنة اثنتين وعشرين، وليس هو حسان الواسطي الماضي. (البخاري، والنَّسائي، وابن ماجه).
الشيخ: انظر: خلاد.
الطالب: ............
الشيخ: نعم، أعد أثر ابن عمر هذا.
الشيخ: هذا الأثر فيه نظر، ولا أظنّه يثبت عن ابن عمر، ولو ثبت عن ابن عمر فهو غير ظاهرٍ، مراد ابن عمر غير ظاهرٍ؛ لأنَّ العبرة بما دلَّت عليه الآية وعمومها، لا تُخصّ ببدرٍ، ولا بغير بدرٍ، الآية تعمّ بدرًا وغير بدرٍ، فالأثر ما أظنّه يثبت عن ابن عمر، وإن ثبت عن ابن عمر فهو من اجتهاده، والله يقول جلَّ وعلا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ يشمل بدرًا وأحدًا وغير ذلك، فهو في حياة النبي، وبعد حياة النبي ﷺ، هو فئة المسلمين في حياته، وولي الأمر بعده: الصديق، وعمر، وهكذا، فولي الأمر يكون فئة المسلمين بعده.
المقصود أنَّ هذا ضعيفٌ من جهة المعنى، ولا يستقيم، سواء ثبت عن ابن عمر، أو ما ثبت عن ابن عمر.
الطالب: خلاد بن سليمان، الحضرمي، أبو سليمان، المصري، ثقة، عابد، من السابعة، مات سنة ثمانٍ وسبعين. (النَّسائي).
الشيخ: لعلَّ عِلَّته حسان هذا، قال فيه الحافظ: مقبول. والآخر يقول: صدوق يُخطئ. لعلَّ هذا من خطئه.
الشيخ: والآية تدلّ على أنَّه من الكبائر؛ لأنَّ الله توعد مَن فرَّ ولم يتحيز إلى فئةٍ، ولم يتحرّف لقتالٍ، توعده بالنار: وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ هذا وعيدٌ وكبيرةٌ، والحديث كذلك، فالقرآن الكريم والحديث الشَّريف كلاهما يدلّان على أنَّ الفرار من الكبائر، إلا إذا تحرّف لقتالٍ، أو تحيّز إلى فئةٍ.
س: عقوبة الفرار من الزَّحف؟
ج: هذا إلى ولي الأمر، محلّ اجتهاد ولي الأمر.
وله شواهد من وجوهٍ أُخر؛ ولهذا قال تعالى: فَقَدْ بَاءَ أي: رجع بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ أي: مصيره ومُنقلبه يوم ميعاده جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ.
وقال الإمام أحمد: حدثنا زكريا بن عدي: حدثنا عبدالله بن عمر الرّقي.
الشيخ: عبيدالله بن عمرو، بالواو.
الشيخ: رِسْل يعني: شرابهم، يعني: لبنهم الذي يستقونه.
وحمولتهم. فقبض رسولُ الله ﷺ يده، ثم قال: فلا جهادَ! ولا صدقةَ! فبمَ تدخل الجنة إذًا؟! قلت: يا رسول الله، أنا أُبايعك. فبايعته عليهنَّ كلهن.
هذا حديثٌ غريبٌ من هذا الوجه، ولم يُخرجوه في الكتب السّتة.
الشيخ: أعد السَّند: حدثنا؟
الشيخ: انظر: أبا المثنى العبدي في "التقريب"، عندك شيء علّق عليه به؟
الطالب: الحديث رجاله كلهم ثقات غير أبي المثنى العبدي، وهو مؤثر بن عفازة، فهو مقبول؛ لهذا قال الحافظ: إنَّه غريبٌ. وترجمته في "التهذيب" باسمه، لا بكُنيته.
الشيخ: أيش قال الحافظ؟
............
والمقصود من هذا أنَّه لا بد من زكاةٍ، ولا بد من جهادٍ حسب الطاقة: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن:16]، لا تجوز البيعة على ترك الجهاد، ولا على ترك الزكاة، لكن الزكاة مَن وُجد عنده نصابها زكَّى، ومَن ليس عنده شيءٌ ما يُزكي، وهكذا الجهاد مَن استطاع وجد، ومَن لم يستطع فلا شيء عليه، والحمد لله: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ، لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ [الفتح:17].
الطالب: مُؤثر -بضم أوله وسكون الواو وكسر المثلثة- بن عفازة -بفتح المهملة والفاء ثم زاي-، أبو المثنى، الكوفي، مقبول، من الثالثة. (ق).
الشيخ: له شواهد في المعنى تدلّ على صحّته.
س: يكون الإسنادُ ضعيفًا؟
ج: يتقوى بالأدلة الأخرى، والأدلة هنا كثيرة تُؤيد الزكاة، وقصص الوفود التي جاءت إلى النبي ﷺ وبايعهم على الزكاة وعلى غيرها، أقول: النصوص الأخرى تُؤيده.
س: جعل أركان الإسلام ستة: الجهاد؟
ج: الجهاد مُستقلّ، والأركان خمسة.
الشيخ: أيش عندك؟ علّق عليه؟
الطالب: في حاشية: وإليك تراجم رجال السَّند.
الشيخ: انظر: يزيد فقط.
الطالب: يزيد بن ربيعة هو الرّحبي، الدّمشقي، قال البخاري: أحاديثه مناكير. قال أبو حاتم: ضعيف.
الشيخ: يكفي، المقصود أنَّ الحديث ضعيف، ومتنه منكر؛ لأنَّ عقوق الوالدين والفرار من المعاصي والكبائر.
علّق عليه: سنده ضعيفٌ لضعف. انظر "التقريب"، يزيد في "التقريب"، والمتن منكر ..... يكون شاذًّا مُخالفًا للأحاديث الصَّحيحة؛ لأنَّ العقوق ليس من الشِّرك، وهكذا الفرار إنما هو من كبائر الذنوب، ولكن لو صحَّ معناه: عظم شأن هاتين المعصيتين، كما قال في الحديث الصحيح: يقول ﷺ: ألا أُنبئكم بأكبر الكبائر؟ قلنا: بلى يا رسول الله. قال: الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، وكان متكئًا فجلس، فقال: ألا وقول الزور، ألا وشهادة الزور، هو من أكبر الكبائر، نسأل الله العافية.
وهذا أيضًا حديثٌ غريبٌ جدًّا.
وقال الطّبراني أيضًا: حدثنا العباس بن مُقاتل الأسفاطي.
الشيخ: بعده أحاديث؟
قارئ المتن: إيه.
الشيخ: قف على هذا.
