22 من قوله: ( وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ..)

قال ﷺ: هَلُمَّ إِلِيَّ ثَوْبًا، فَأُتِي بِهِ فَأَخَذَ الرُّكْنَ، يَعْنِي الْحَجَرَ الْأَسْوَدَ فَوَضَعَهُ فِيهِ بِيَدِهِ، ثُمَّ قَالَ: لِتَأْخُذْ كُلُّ قبيلة بناحية من الثوب ثم ارْفَعُوهُ جَمِيعًا، فَفَعَلُوا حَتَّى إِذَا بَلَغُوا بِهِ مَوْضِعَهُ.الشيخ: وهذا من (.......) الذي وفقه الله له، فإنه هو الذي أخذه بيده ووضعه بالثوب ثم قال للقبائل: كل قبيلة منكم تأخذ طرفًا من الثوب فرفعوه جميعًا وانتهى النزاع.
حَتَّى إِذَا بَلَغُوا بِهِ مَوْضِعَهُ، وَضَعَهُ هُوَ بِيَدِهِ ﷺ ثُمَّ بَنَى عَلَيْهِ، وَكَانَتْ قُرَيْشٌ تُسَمِّي رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَبْلَ أن ينزل الْوَحْيُ الْأَمِينُ، فَلَمَّا فَرَغُوا مِنَ الْبُنْيَانِ وَبَنَوْهَا عَلَى مَا أَرَادُوا، قَالَ الزُّبَيْرُ بْنُ عبدالْمُطَّلِبِ، فِيمَا كَانَ مِنْ أَمْرِ الْحَيَّةِ التِي كانت قريش تهاب بنيان الكعبة لها:الشيخ: الزبير هذا أحد أعمام النبي ﷺ، ولم يولد له فيما نعلم إلا بنت وهي ضباعة بنت الزبير امرأة المقداد بن الأسود، وهي بنته التي حجت الفريضة قال لها النبي ﷺ: حجي واشترطي أن محلي حيث حبستني. الشيخ: وهم كرهوا أن يقتلوها خافوا أن يكون في قتلها شيء، وإلا قتلها سهل، لكنهم كأنهم كرهوا قتلها وخافوا أن يكون قتلها غير مرضي لله وأنها وجدت حماية لهذا البيت فلهذا هابوها وكرهوا قتلها؛ حتى أرسل الله عليها هذا العقاب الطير فشالها وربك حكيم عليم . الشيخ: هذا في الجاهلية شرف عظيم.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَكَانَتِ الْكَعْبَةُ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ ﷺ ثماني عَشَرَ ذِرَاعًا، وَكَانَتْ تُكْسَى الْقَبَاطِيَّ، ثُمَّ كُسِيَتْ بَعْدُ الْبُرُودَ، وَأَوَّلُ مَنْ كَسَاهَا الدِّيبَاجَ الْحَجَّاجُ بْنُ يُوسُفَ.
(قُلْتُ) وَلَمْ تَزَلْ عَلَى بِنَاءِ قريش حتى احترقت فِي أَوَّلِ إِمَارَةِ عبداللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ بعد سنة ستين وَفِي آخِرِ وِلَايَةِ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ، لَمَّا حَاصَرُوا ابْنَ الزُّبَيْرِ، فَحِينَئِذٍ نَقَضَهَا ابْنُ الزُّبَيْرِ إِلَى الْأَرْضِ وَبَنَاهَا عَلَى قَوَاعِدِ إِبْرَاهِيمَ ، وَأَدْخَلَ فِيهَا الْحِجْرَ، وَجَعَلَ لَهَا بَابًا شَرْقِيًّا وَبَابًا غَرْبِيًّا مُلْصَقَيْنِ بِالْأَرْضِ كَمَا سَمِعَ ذلك من خالته عائشة أم المؤمنين عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وَلَمْ تَزَلْ كَذَلِكَ مُدَّةَ إِمَارَتِهِ حَتَّى قَتَلَهُ الْحَجَّاجُ، فَرَدَّهَا إِلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ بِأَمْرِ عبدالْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ لَهُ بِذَلِكَ، كَمَا قال مسلم بن الحجاج في صحيحه: أخبرنا هناد بن السري، أخبرنا ابْنُ أَبِي زَائِدَةَ، أَخْبَرَنَا ابْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ عَنْ عَطَاءٍ، قَالَ: لَمَّا احْتَرَقَ الْبَيْتُ زَمَنَ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ حِينَ غَزَاهَا أَهْلُ الشَّامِ، فكان مِنْ أَمْرِهِ مَا كَانَ، تَرَكَهُ ابْنُ الزُّبَيْرِ حتى قدم الناس الموسم، يريد أن يحزبهم أو يجرئهم عَلَى أَهْلِ الشَّامِ.
فَلَمَّا صَدَرَ النَّاسُ قَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ، أَشِيرُوا عَلِيَّ فِي الْكَعْبَةِ أَنْقُضُهَا ثُمَّ أَبْنِي بِنَاءَهَا، أَوْ أُصْلِحُ مَا وَهَى مِنْهَا؟ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَإِنِّي قَدْ فرِقَ لِي رَأْيٌ فِيهَا، أَرَى أَنْ تُصْلِحَ مَا وَهَى مِنْهَا، وَتَدَعَ بَيْتًا أَسْلَمَ النَّاسُ عَلَيْهِ، وَأَحْجَارًا أَسْلَمَ النَّاسُ عَلَيْهَا، وَبُعِثَ عَلَيْهَا ﷺ، فَقَالَ ابْنُ الزُّبَيْرِ: لَوْ كَانَ أَحَدُهُمُ احْتَرَقَ بَيْتُهُ مَا رَضِيَ حَتَّى يُجَدِّدَهُ، فَكَيْفَ بَيْتُ رَبِّكُمْ ؟ إِنِّي مُسْتَخِيرٌ رَبِّي ثَلَاثًا، ثُمَّ عَازِمٌ عَلَى أَمْرِي، فَلَمَّا مَضَتْ ثَلَاثٌ، أَجْمَعَ رَأْيَهُ عَلَى أَنْ يَنْقُضَهَا فَتَحَامَاهَا النَّاسُ أَنْ يَنْزِلَ بِأَوَّلِ النَّاسِ يَصْعَدُ فِيهِ أَمْرٌ مِنَ السَّمَاءِ، حَتَّى صَعِدَهُ رَجُلٌ فَأَلْقَى مِنْهُ حِجَارَةً، فَلَمَّا لَمْ يَرَهُ النَّاسُ أَصَابَهُ شَيْءٌ تَتَابَعُوا فَنَقَضُوهُ حَتَّى بَلَغُوا بِهِ الْأَرْضَ، فَجَعَلَ ابْنُ الزُّبَيْرِ أَعْمِدَةً يَسْتُرُ عَلَيْهَا السُّتُورَ حَتَّى ارْتَفَعَ بِنَاؤُهُ، وَقَالَ ابْنُ الزُّبَيْرِ: إِنِّي سَمِعْتُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا تَقُولُ إِنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ لَوْلَا أَنَّ النَّاسَ حَدِيثٌ عَهْدُهُمْ بِكُفْرٍ، وَلَيْسَ عِنْدِي مِنَ النَّفَقَةِ مَا يُقَوِّينِي عَلَى بِنَائِهِ لَكُنْتُ أَدْخَلْتُ فِيهِ مِنَ الْحِجْرِ خَمْسَةَ أَذْرُعٍ، وَلَجَعَلْتُ لَهُ بَابًا يَدْخُلُ النَّاسُ مِنْهُ، وَبَابًا يَخْرُجُونَ مِنْهُ قَالَ: فَأَنَا أَجِدُ مَا أُنْفِقُ، وَلَسْتُ أَخَافُ النَّاسَ، قَالَ: فَزَادَ فِيهِ خَمْسَةَ أَذْرُعٍ مِنَ الْحِجْرِ حَتَّى أَبْدَى له أسا، فنظر النَّاسُ إِلَيْهِ، فَبَنَى عَلَيْهِ الْبِنَاءَ، وَكَانَ طُولُ الْكَعْبَةِ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ ذِرَاعًا فَلَمَّا زَادَ فِيهِ استقصره فزاد في طوله عَشَرَةَ أَذْرُعٍ وَجَعَلَ لَهُ بَابَيْنِ: أَحَدُهُمَا يُدْخَلُ مِنْهُ، وَالْآخَرُ يُخْرَجُ مِنْهُ. فَلَمَّا قُتِلَ ابْنُ الزبير، كتب الحجاج إلى عبدالملك يستجيزه بِذَلِكَ وَيُخْبِرُهُ أَنَّ ابْنَ الزُّبَيْرِ قَدْ وَضَعَ الْبِنَاءَ عَلَى أُسٍّ نَظَرَ إِلَيْهِ الْعُدُولُ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ فَكَتَبَ إِلَيْهِ عبدالْمَلِكِ: إِنَّا لَسْنَا مِنْ تَلْطِيخِ ابْنِ الزُّبَيْرِ فِي شَيْءٍ، أَمَّا مَا زَادَهُ فِي طُولِهِ فَأَقِرَّهُ، وَأَمَّا مَا زَادَ فِيهِ مِنَ الْحِجْرِ فَرُدَّهُ إِلَى بِنَائِهِ، وَسُدَّ الْبَابَ الذِي فَتَحَهُ، فَنَقَضَهُ وَأَعَادَهُ إِلَى بِنَائِهِ.
وَقَدْ رَوَاهُ النَّسَائِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنْ هَنَّادٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي زَائِدَةَ، عَنْ عبدالْمَلِكِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنِ ابْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ عَائِشَةَ بِالْمَرْفُوعِ مِنْهُ، وَلَمْ يَذْكُرِ الْقِصَّةَ وَقَدْ كَانَتِ السُّنَّةُ إِقْرَارَ مَا فَعَلَهُ عبداللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، لِأَنَّهُ هُوَ الذِي وَدَّهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، وَلَكِنْ خَشِيَ أَنْ تُنْكِرَهُ قُلُوبُ بَعْضِ النَّاسِ لِحَدَاثَةِ عَهْدِهِمْ بِالْإِسْلَامِ وَقُرْبِ عَهْدِهِمْ مِنَ الْكُفْرِ، وَلَكِنْ خَفِيَتْ هَذِهِ السُّنَّةُ على عبدالملك بن مروان، وَلِهَذَا لَمَّا تَحَقَّقَ ذَلِكَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا روت ذلك عن رسول الله ﷺ قال: وددنا أن تَرَكْنَاهُ وَمَا تَوَلَّى، كَمَا قَالَ مُسْلِمٌ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ، أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ: سَمِعْتُ عبداللَّهِ بْنَ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ وَالْوَلِيدَ بْنَ عَطَاءٍ يُحَدِّثَانِ عَنِ الْحَارِثِ بْنِ عبداللَّهِ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ، قَالَ عبداللَّهِ بْنُ عُبَيْدٍ: وَفَدَ الْحَارِثُ بْنُ عبداللَّهِ عَلَى عبدالْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ فِي خِلَافَتِهِ، فَقَالَ عبدالْمَلِكِ: مَا أَظُنُّ أَبَا خُبَيْبٍ، يَعْنِي ابْنَ الزُّبَيْرِ، سَمِعَ مِنْ عَائِشَةَ مَا كَانَ يَزْعُمُ أَنَّهُ سَمِعَهُ مِنْهَا، قَالَ الْحَارِثُ: بَلَى، أَنَا سَمِعْتُهُ مِنْهَا. قَالَ: سَمِعْتُهَا تَقُولُ مَاذَا؟ قَالَ: قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ إِنَّ قَوْمَكِ اسْتَقْصَرُوا مِنْ بُنْيَانِ الْبَيْتِ، وَلَوْلَا حَدَاثَةُ عَهْدِهِمْ بِالشِّرْكِ أَعَدْتُ مَا تَرَكُوا مِنْهُ، فَإِنْ بَدَا لِقَوْمِكِ مِنْ بَعْدِي أَنْ يَبْنُوهُ، فهلمي لأريك ما تركوه مِنْهُ فَأَرَاهَا قَرِيبًا مِنْ سَبْعَةِ أَذْرُعٍ، هَذَا حَدِيثُ عبداللَّهِ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ، وَزَادَ عَلَيْهِ الْوَلِيدُ بْنُ عَطَاءٍ قَالَ النَّبِيُّ ﷺ وَلَجَعَلْتُ لَهَا بَابَيْنِ مَوْضُوعَيْنِ فِي الْأَرْضِ: شَرْقِيًّا وَغَرْبِيًّا، وَهَلْ تَدْرِينَ لم كان قومك رفعوا بابها قالت: لا. قال تعززا أن لا يَدْخُلَهَا إِلَّا مَنْ أَرَادُوا، فَكَانَ الرَّجُلُ إِذَا هُوَ أَرَادَ أَنْ يَدْخُلَهَا يَدَعُونَهُ حَتَّى يَرْتَقِيَ، حَتَّى إِذَا كَادَ أَنْ يَدْخُلَ دَفَعُوهُ فَسَقَطَ قَالَ عبدالْمَلِكِ: فَقُلْتُ لِلْحَارِثِ: أَنْتَ سَمِعْتَهَا تَقُولُ هَذَا؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ فَنَكَتَ سَاعَةً بعصاه، ثم قال: وددت أني تركته وَمَا تَحَمَّلَ.
قَالَ مُسْلِمٌ: وَحَدَّثَنَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ جَبَلَةَ، حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ (ح)، وَحَدَّثَنَا عبدبْنُ حُمَيْدٍ، أَخْبَرَنَا عبدالرَّزَّاقِ كِلَاهُمَا عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ بِهَذَا الْإِسْنَادِ مِثْلَ حديث أبي بكر.الشيخ: ابن أبي بكر مثل ما تقدم.
قال: وحدثنا مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمٍ، حَدَّثَنَا عبداللَّهِ بْنُ بَكْرٍ السَّهْمِيُّ، حَدَّثَنَا حَاتِمُ بْنُ أَبِي صَغِيرَةَ عَنْ أَبِي قَزَعَةَ: أَنَّ عبدالْمَلِكِ بْنَ مَرْوَانَ بَيْنَمَا هُوَ يَطُوفُ بِالْبَيْتِ إِذْ قَالَ: قَاتَلَ اللَّهُ ابْنَ الزُّبَيْرِ حَيْثُ يَكْذِبُ عَلَى أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ، يَقُولُ سَمِعْتُهَا تَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَا عَائِشَةُ لولا حدثان قومك بالكفر لنقضت الكعبة حَتَّى أَزِيدَ فِيهَا مِنَ الْحِجْرِ. فَإِنَّ قَوْمَكِ قَصَّرُوا فِي الْبِنَاءِ فَقَالَ الْحَارِثُ بْنُ عبداللَّهِ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ: لَا تَقُلْ هَذَا يا أمير المؤمنين، فإني سَمِعْتُ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ تُحَدِّثُ هَذَا. قَالَ: لَوْ كُنْتُ سَمِعْتُهُ قَبْلَ أَنْ أَهْدِمَهُ لَتَرَكْتُهُ عَلَى مَا بَنَى ابْنُ الزُّبَيْرِ. فَهَذَا الْحَدِيثُ كَالْمَقْطُوعِ به إلى عائشة، لِأَنَّهُ قَدْ رُوِيَ عَنْهَا مِنْ طُرُقٍ صَحِيحَةٍ مُتَعَدِّدَةٍ عَنِ الْأَسْوَدِ بْنِ يَزِيدَ وَالْحَارِثِ بْنِ عبداللَّهِ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ وَعبداللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ وَعبداللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أبي بكر وَعُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، فَدَلَّ هَذَا عَلَى صَوَابِ مَا فَعَلَهُ ابْنُ الزُّبَيْرِ، فَلَوْ تُرِكَ لَكَانَ جَيِّدًا.الشيخ: وقول عبدالملك: قاتل الله ابن الزبير، هذا من أغلاط عبدالملك ومن خطئه عفا الله عنهم جميعًا، فعبدالله بن الزبير صحابي جليل وهو أفضل من عبدالملك وأصدق رضي الله عنه ورحمه، هو اجتهد في ذلك ولكن الإمرة والخلافة لها أثر عظيم في الكلام والعقائد وفي كل شيء نسأل الله السلامة.
وَلَكِنْ بَعْدَ مَا رَجَعَ الْأَمْرُ إِلَى هَذَا الْحَالِ، فَقَدْ كَرِهَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ أَنْ يُغَيَّرَ عَنْ حَالِهِ كَمَا ذُكِرَ عَنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ هَارُونَ الرَّشِيدِ أَوْ أَبِيهِ الْمَهْدِيِّ أَنَّهُ سَأَلَ الْإِمَامَ مَالِكًا عَنْ هَدْمِ الْكَعْبَةِ وَرَدِّهَا إِلَى مَا فَعَلَهُ ابْنُ الزُّبَيْرِ. فَقَالَ لَهُ مَالِكٌ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، لَا تَجْعَلْ كَعْبَةَ اللَّهِ مَلْعَبَةً لِلْمُلُوكِ لَا يَشَاءُ أَحَدٌ أَنْ يَهْدِمَهَا إِلَّا هَدَمَهَا، فَتَرَكَ ذَلِكَ الرَّشِيدُ، نَقَلَهُ عياض والنووي وَلَا تَزَالُ- وَاللَّهُ أَعْلَمُ- هَكَذَا إِلَى آخِرِ الزَّمَانِ، إِلَى أَنْ يُخَرِّبَهَا ذُو السُّوَيْقَتَيْنِ مِنَ الْحَبَشَةِ، كَمَا ثَبَتَ ذَلِكَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يُخَرِّبُ الْكَعْبَةَ ذُو السُّوَيْقَتَيْنِ من الحبشة أخرجاه.
وعن ابن عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ كَأَنِّي بِهِ أَسْوَدَ أَفْحَجَ يَقْلَعُهَا حَجَرًا حَجَرًا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.الشيخ: وهذا الذي قاله مالك رحمه الله تلقته الأمة بالقبول لأن الناس إذا فسح لهم في الهدم هذا يهدم وهذا يبني حصل التلاعب ولم تستقر الكعبة على حال ولهذا منع مالك من فعل ذلك وأمر الأمير (......) بتركها، (.......) وكان اجتهادًا منه وهو في محله، لكن لما غيرها عبدالملك وردها إلى حالها الأولى رأى العلماء ترك ذلك وأنها لا تغير حتى لا يتلاعب الناس هذا يهدم وهذا يبني؛ لأن الملوك فيما بينهم يحصل بينهم من التغاير والمقاتلة والحسد ومحبة العلو ما لا يحصره إلا الله ؛ ولهذا تركت على حالها بعد بناء عبدالملك إلى يومنا هذا.
 وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ في مسنده: أخبرنا أحمد بن عبدالملك الحراني، أخبرنا مُحَمَّدُ بْنُ سَلَمَةَ عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنْ عبداللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: يُخَرِّبُ الْكَعْبَةَ ذُو السُّوَيْقَتَيْنِ مِنَ الْحَبَشَةِ، وَيَسْلُبُهَا حِلْيَتَهَا، وَيُجَرِّدُهَا مِنْ كُسْوَتِهَا، وَلَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَيْهِ أُصَيْلِعَ أُفَيْدِعَ يَضْرِبُ عَلَيْهَا بِمِسْحَاتِهِ وَمِعْوَلِهِ - الْفَدَعُ: زَيْغٌ بَيْنَ الْقَدَمِ وَعَظْمِ السَّاقِ-
وَهَذَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، إِنَّمَا يَكُونُ بَعْدَ خُرُوجِ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ.الشيخ: وهذا السند يعضده السند الذي قبله لأنه ضعيف لأنه من عنعنة ابن إسحاق، لكنه يعضده ما تقدم.
لِمَا جَاءَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ لَيُحَجَّنَّ الْبَيْتُ وَلَيُعْتَمَرَنَّ بَعْدَ خُرُوجِ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى حِكَايَةً لِدُعَاءِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ: رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنا مَناسِكَنا وَتُبْ عَلَيْنا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ.
 قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: يَعْنِيَانِ بِذَلِكَ وَاجْعَلْنَا مُسْتَسْلِمِينَ لِأَمْرِكَ، خاضعين لطاعتك، ولا نُشْرِكُ مَعَكَ فِي الطَّاعَةِ أَحَدًا سِوَاكَ، وَلَا فِي الْعِبَادَةِ غَيْرَكَ.
.................  
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: أخبرنا أبي، أخبرنا إسماعيل بن رجاء بن حيان الحصني القرشي، أخبرنا مَعْقِلُ بْنُ عُبَيْدِاللَّهِ عَنْ عبدالْكَرِيمِ وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ قَالَ: مُخْلِصَيْنِ لَكَ، وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ قَالَ: مُخْلِصَةً، وَقَالَ أيضا: أخبرنا علي بن الحسين، أخبرنا المقدمي، أخبرنا سَعِيدُ بْنُ عَامِرٍ عَنْ سَلَّامِ بْنِ أَبِي مُطِيعٍ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ قَالَ: كَانَا مُسْلِمَيْنِ، وَلَكِنَّهُمَا سَأَلَاهُ الثَّبَاتَ.
وَقَالَ عِكْرِمَةُ: رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ قَالَ اللَّهُ: قَدْ فَعَلْتُ، وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ قَالَ اللَّهُ: قَدْ فَعَلْتُ.
وَقَالَ السُّدِّيُّ: وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ يَعْنِيَانِ الْعَرَبَ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَالصَّوَابُ أَنَّهُ يَعُمُّ الْعَرَبَ وَغَيْرَهُمْ، لِأَنَّ مِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ بَنِي إِسْرَائِيلَ.الشيخ: والإسلام لله يعني الانقياد له والخضوع لعظمته بامتثال أوامره والانتهاء عن نواهيه وهما يطلبان أن يكونا على هذه الحال منقادين لأمر الله مستقيمين على أمر الله ذليلين لأمر الله وهكذا من ذريتهما، وهكذا المؤمن يسأل ربه دائمًا أن يثبته على الإيمان وأن يجعله مؤمنًا حقًا، وهكذا المتقي يسأل ربه أن يثبته على التقوى وأن يعينه على تحقيقها ولهذا أمر بالعبد ذلك، اتقوا ربكم، اتقوا الله، آمنوا بالله ورسوله، وهو مؤمنون بلى من أسلم وجهه له وهو محسن والمعنى إكمال ذلك وإتمامه والثبات عليه والأمر بالتقوى والأمر بالإيمان وبالإسلام معناه في حق المسلم معناه الثبات على هذا الشيء والتأكد فيه والتحقق منه والاستقامة فيه والتفقه فيه حتى يجتمع له أنواعه كلها.
وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَمِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ [الْأَعْرَافِ:159].
(قُلْتُ) وَهَذَا الذِي قَالَهُ ابْنُ جَرِيرٍ لَا يَنْفِيهِ السُّدِّيُّ، فَإِنَّ تَخْصِيصَهُمْ بِذَلِكَ لَا يَنْفِي مَنْ عَدَاهُمْ، وَالسِّيَاقُ إنما هو الْعَرَبِ، وَلِهَذَا قَالَ بَعْدَهُ: رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ. وَالْمُرَادُ بِذَلِكَ مُحَمَّدٌ ﷺ، وَقَدْ بُعِثَ فِيهِمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى: هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ [الجمعة:2] ومع هذا لا ينفي رسالته إلى الْأَحْمَرِ وَالْأَسْوَدِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً [الْأَعْرَافِ:158] وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَدِلَّةِ الْقَاطِعَةِ.الشيخ: هو بعث للأميين والعرب في الأصالة في الأساس بعث فيهم أولاً هم الفاتحة وهو منهم، ورسالته عامة إلى جميع العرب والعجم والجن والإنس قال سبحانه: هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ [الجمعة:2] يعني أساسًا وأصالة بعث فيهم والناس في ذلك تبع لهم من سائر الأمم هو مبعوث للجميع: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا [سبأ:28] قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا [الأعراف:158]  كما هو إجماع أهل العلم.
وَهَذَا الدُّعَاءُ من إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام كما أخبرنا اللَّهُ تَعَالَى عَنْ عِبَادِهِ الْمُتَّقِينَ الْمُؤْمِنِينَ فِي قَوْلِهِ: وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا هَبْ لَنا مِنْ أَزْواجِنا وَذُرِّيَّاتِنا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً [الْفُرْقَانِ:74] وَهَذَا الْقَدْرُ مَرْغُوبٌ فِيهِ شَرْعًا، فَإِنَّ مِنْ تَمَامِ مَحَبَّةِ عِبَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى أَنْ يُحِبَّ أَنْ يَكُونَ مِنْ صُلْبِهِ مَنْ يَعبد اللَّهَ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ. وَلِهَذَا لَمَّا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى لِإِبْرَاهِيمَ : إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لَا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ [البقرة:124] وَهُوَ قَوْلُهُ: وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعبدالْأَصْنامَ [إِبْرَاهِيمَ:35] وَقَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ  عَنِ النَّبِيِّ ﷺ، أَنَّهُ قَالَ: إِذَا مَاتَ ابْنُ آدَمَ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثٍ: صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يدعو له .
وَأَرِنا مَناسِكَنا قال ابن جريج عَنْ عَطَاءٍ: وَأَرِنا مَناسِكَنا أَخْرِجْهَا لَنَا عَلِّمْنَاهَا، وقال مجاهد: أَرِنا مَناسِكَنا مَذَابِحَنَا. وَرُوِيَ عَنْ عَطَاءٍ أَيْضًا وَقَتَادَةَ نحو ذلك.الشيخ: المناسك عامة تعم جميع أنواع العبادة وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا [الحج:34] قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي [الأنعام:162] فيعم مواضع الذبح ويعم  أنواع العبادات، فيطلبان من ربهما أن يريهما العبادات التي يأمرهم بها وأن يريهم مواضع النسك كعرفة ومزدلفة ونحو ذلك وهما يطلبان جميع ما يتعلق بالنسك من العبادة قولية أو فعلية أو مكانية.
وقال سعيد بن منصور: أخبرنا عَتَّابُ بْنُ بَشِيرٍ عَنْ خُصَيْفٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قال: قال إبراهيم أَرِنا مَناسِكَنا فأراه جِبْرَائِيلُ فَأَتَى بِهِ الْبَيْتَ، فَقَالَ: ارْفَعِ الْقَوَاعِدَ، فَرَفَعَ الْقَوَاعِدَ وَأَتَمَّ الْبُنْيَانَ ثُمَّ أَخَذَ بِيَدِهِ فَأَخْرَجَهُ فَانْطَلَقَ بِهِ إِلَى الصَّفَا، قَالَ: هَذَا مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ، ثُمَّ انْطَلَقَ بِهِ إِلَى الْمَرْوَةِ، فَقَالَ: وَهَذَا مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ، ثُمَّ انْطَلَقَ بِهِ نَحْوَ مِنًى، فَلَمَّا كَانَ مِنَ الْعَقَبَةِ إِذَا إِبْلِيسُ قَائِمٌ عِنْدَ الشَّجَرَةِ، فَقَالَ: كَبِّرْ وَارْمِهِ، فَكَبَّرَ وَرَمَاهُ، ثُمَّ انْطَلَقَ إِبْلِيسُ فَقَامَ عِنْدَ الْجَمْرَةِ الْوُسْطَى، فَلَمَّا جَازَ بِهِ جِبْرِيلُ وَإِبْرَاهِيمُ قَالَ لَهُ: كَبِّرْ وَارْمِهِ، فَكَبَّرَ ورماه، فذهب الخبيث إِبْلِيسُ وَكَانَ الْخَبِيثُ أَرَادَ أَنْ يُدْخِلَ فِي الْحَجِّ شَيْئًا، فَلَمْ يَسْتَطِعْ، فَأَخَذَ بِيَدِ إِبْرَاهِيمَ حَتَّى أَتَى بِهِ الْمَشْعَرَ الْحَرَامَ، فَقَالَ: هَذَا الْمَشْعَرُ الْحَرَامُ، فَأَخَذَ بِيَدِ إِبْرَاهِيمَ حَتَّى أَتَى بِهِ عَرَفَاتٍ، قَالَ: قَدْ عَرَفْتَ مَا أَرَيْتُكَ؟ قالها ثلاث مرات، قَالَ: نَعَمْ.
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي مِجْلَزٍ وَقَتَادَةَ نحو ذلك، وقال أبو داود الطيالسي: أخبرنا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ أَبِي الْعَاصِمِ الْغَنَوِيِّ، عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ.
قَالَ: إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَمَّا أُرِيَ أَوَامِرَ الْمَنَاسِكِ، عَرَضَ لَهُ الشَّيْطَانُ عِنْدَ الْمَسْعَى، فَسَابَقَهُ إِبْرَاهِيمُ ثُمَّ انْطَلَقَ بِهِ جِبْرِيلُ حَتَّى أَتَى بِهِ مِنًى، قال: هذا مناخ الناس، فَلَمَّا انْتَهَى إِلَى جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ تَعَرَّضَ لَهُ الشَّيْطَانُ، فَرَمَاهُ بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ حَتَّى ذَهَبَ، ثُمَّ أتى به إلى الْجَمْرَةَ الوسطى فعرض له الشيطان فرماه بسبع حصيات حتى ذهب، ثم أتى به إلى الجمرة الْقُصْوَى فَعَرَضَ لَهُ الشَّيْطَانُ، فَرَمَاهُ بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ حَتَّى ذَهَبَ فَأَتَى بِهِ جَمْعًا، فَقَالَ: هَذَا الْمَشْعَرُ، ثُمَّ أَتَى بِهِ عَرَفَةَ، فَقَالَ: هذه عرفة، فقال له جبريل: أعرفت؟الشيخ: وهذا سند جيد ويحتمل أن ابن عباس سمعه من بعض الصحابة أو من النبي ﷺ والغالب أنه سمعه ممن ينقل عن بني إسرائيل لأنه لم يثبت عن النبي ﷺ.رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ
يَقُولُ تَعَالَى إِخْبَارًا عَنْ تَمَامِ دَعْوَةِ إِبْرَاهِيمَ لِأَهْلِ الْحَرَمِ أَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ، أَيْ مِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ، وَقَدْ وَافَقَتْ هَذِهِ الدَّعْوَةُ الْمُسْتَجَابَةُ قَدَرَ اللَّهِ السَّابِقَ فِي تَعْيِينِ مُحَمَّدٍ صَلَوَاتُ اللَّهِ وسلامه عليه رسولا في الأميين إليهم وإلى سائر الأعجميين مِنَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ، كَمَا قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ : أخبرنا عبدالرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ صَالِحٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ سُوَيْدٍ الْكَلْبِيِّ، عَنْ عبدالْأَعْلَى بْنِ هِلَالٍ السُّلَمِيِّ، عَنِ الْعِرْبَاضِ بْنِ سَارِيَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ إني عبد اللَّهِ لَخَاتَمُ النَّبِيِّينَ، وَإِنَّ آدَمَ لَمُنْجَدِلٌ فِي طِينَتِهِ، وَسَأُنْبِئُكُمْ بِأَوَّلِ ذَلِكَ، دَعْوَةُ أَبِي إِبْرَاهِيمَ، وَبِشَارَةُ عِيسَى بِي، وَرُؤْيَا أُمِّي الَّتِي رَأَتْ، وَكَذَلِكَ أُمَّهَاتُ النَّبِيِّينَ يَرَيْنَ وَكَذَلِكَ رَوَاهُ ابْنُ وَهْبٍ وَاللَّيْثُ وَكَاتِبُهُ عبداللَّهِ بْنُ صَالِحٍ عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ صَالِحٍ وَتَابَعَهُ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ سُويَدٍ به.الشيخ: أيش قال عن سعيد بن سويد؟
الطالب: يقول: سعيد بن سويد الكلبي قال الحافظ في تعجيل المنفعة روى عن العرباض بن سارية وربما أدخل بينهما عبدالأعلى بن هلال إلى أن قال: وروى عنه معاوية بن صالح وأبو بكر بن أبي مريم وذكره ابن حبان في الثقات، وقال البخاري: لم يصح حديثه يعني الذي رواه معاوية عنه مرفوعًا، وذكر هذا الحديث إلى أن قال: وخالفه أي البخاري وابن حبان والحاكم (.......) يقول: وأنت خبير بأن ابن حبان والحاكم متساهلان في التصحيح فلا (......) تصحيحهما الحديث معارضًا لقول البخاري رحمه الله هذا.
وأما عبدالأعلى بن هلال السلمي فلم يترجم له الحافظ في تعجيل المنفعة، وقد قال ابن أبي حاتم: روى عن العرباض بن سارية وأبي أمامة الباهلي وروى عنه سويد بن سعيد سمعت أبي يقول ذلك، فعلى هذا يكون مجهول العين ويكون حديثه ........
الشيخ: ...... على هذا أن النبي ﷺ هو خاتم النبيين وهو رسول رب العالمين قبل آدم وقبل خلق آدم قبل خلق آدم بخمسين ألف سنة بل أكثر من ذلك لأن في الحديث الصحيح: إن الله قدر مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة وكان عرشه على الماء قبل آدم وقبل الخلق السماء والأرض بخمسين ألف سنة، هذا يشكل على (......) ولكن  من باب التقدير التفصيلي لو صح، كما أن الرسول ﷺ خاتم الأنبياء في القدر السابق، فهو أيضاً كذلك حين وجود آدم وهو أيضاً كذلك حين بعث الله الأنبياء، وهكذا لأنه قدره سابق على الجميع فيكون من باب التفصيل مثل قدر الجنين في بطن أمه، وهكذا التقدير في ليلة القدر، تفصيل للقدر السابق لا منافاة لو صح.
وقال الإمام أحمد أيضا: أخبرنا أبو النضر، أخبرنا الفرج، أخبرنا لُقْمَانُ بْنُ عَامِرٍ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا أُمَامَةَ قَالَ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ: مَا كَانَ أَوَّلُ بَدْءِ أَمْرِكَ؟ قَالَ دَعْوَةُ أَبِي إِبْرَاهِيمَ، وَبُشْرَى عِيسَى بِي. وَرَأَتْ أُمِّي أَنَّهُ خَرَجَ مِنْهَا نُورٌ أَضَاءَتْ لَهُ قُصُورُ الشَّامِ .
وَالْمُرَادُ أَنَّ أَوَّلَ مَنْ نَوَّهَ بِذِكْرِهِ وَشَهَرَهُ فِي النَّاسِ إِبْرَاهِيمُ ، وَلَمْ يَزَلْ ذِكْرُهُ فِي النَّاسِ مَذْكُورًا مَشْهُورًا سائر حَتَّى أَفْصَحَ بِاسْمِهِ خَاتَمُ أَنْبِيَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ نَسَبًا، وَهُوَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ ، حَيْثُ قَامَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ خَطِيبًا، وَقَالَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ [الصَّفِّ:6] وَلِهَذَا قَالَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ دَعْوَةُ أَبِي إِبْرَاهِيمَ وَبُشْرَى عِيسَى ابن مَرْيَمَ.
وَقَوْلُهُ: "وَرَأَتْ أُمِّي أَنَّهُ خَرَجَ مِنْهَا نُورٌ أَضَاءَتْ لَهُ قُصُورُ الشَّامِ"، قِيلَ: كَانَ مناما رأته حين حلمت بِهِ، وَقَصَّتْهُ عَلَى قَوْمِهَا، فَشَاعَ فِيهِمْ وَاشْتَهَرَ بَيْنَهُمْ، وَكَانَ ذَلِكَ تَوْطِئَةً وَتَخْصِيصُ الشَّامِ بِظُهُورِ نوره إشارة إلى استقرار دينه ونبوته بِبِلَادِ الشَّامِ، وَلِهَذَا تَكُونُ الشَّامُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ مَعْقِلًا لِلْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ، وَبِهَا يَنْزِلُ عِيسَى ابن مريم إذ نَزَلَ بِدِمَشْقَ بِالْمَنَارَةِ الشَّرْقِيَّةِ الْبَيْضَاءِ مِنْهَا، وَلِهَذَا جَاءَ فِي الصَّحِيحَيْنِ لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ عَلَى الْحَقِّ لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ وَلَا مَنْ خَالَفَهُمْ حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَذَلِكَ وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ وَهُمْ بِالشَّامِ.الشيخ: يحتاج مراجعة، الذي أذكر أن تعيين الشام أنها خارج الصحيحين، والمعنى في وقت ما ما هو بدائم، فالصواب أن هذه الطائفة ليس لها مقر معين فقد تكون في الشام وقد تكون في غير الشام قد تكون في أفريقيا، قد تكون في الشرق، وقد تكون في الغرب، المقصود أنها طائفة لا تجتمع على الباطل، وهذا من فضل الله ورحمته ، وقد تكون أقسامًا بعضها في الشام وبعضها في نجد وبعضها في أفريقيا نعم.
قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ الرَّازِيُّ عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ فِي قَوْلِهِ رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَعْنِي أُمَّةَ مُحَمَّدٍ ﷺ، فَقِيلَ لَهُ: قد استجيب لَكَ، وَهُوَ كَائِنٌ فِي آخِرِ الزَّمَانِ، وَكَذَا قَالَ السُّدِّيُّ وَقَتَادَةُ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ يَعْنِي الْقُرْآنَ، وَالْحِكْمَةَ يَعْنِي السُّنَّةَ، قَالَهُ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ وَمُقَاتِلُ بْنُ حَيَّانَ وَأَبُو مَالِكٍ وَغَيْرُهُمْ، وَقِيلَ: الْفَهْمُ فِي الدِّينِ وَلَا مُنَافَاةَ، وَيُزَكِّيهِمْ قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عباس يعني طاعة الله. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ قال: الخير فيفعلوه والشر فيتقوه، ويخبرهم برضا الله عنهم إذا أطاعوه ليستكثروا من طاعته ويجتنبوا ما يسخطه من معصيته.
وقَوْلُهُ: إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ أَيِ الْعَزِيزُ الذِي لَا يُعْجِزُهُ شَيْءٌ، وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ الْحَكِيمُ فِي أَفْعَالِهِ وَأَقْوَالِهِ، فَيَضَعُ الأشياء في محالها لعلمه وحكمته وعدله.الطالب: تكلم على زيادة في الشام؟
الشيخ: نعم أيش قال عليها؟
الطالب: .... في الصحيحين عن النبي ﷺ أنه قال: لا تزال طائفة في أمتي قائمة بأمر الله لا يضرهم من خالفهم ولا من خذلهم حتى تقوم الساعة فقام مالك بن.... فقال: سمعت معاذ بن جبل: وهم في الشام فقال معاوية: وهذا مالك بن... يذكر أنه سمع معاذًا يقول: هم في الشام ..... وهذا الذي في الصحيحين من حديث معاوية، وفيهما أيضاً من حديث المغيرة بن شعبة عن النبي ﷺ أنه قال: لا تزال من أمتي أمة ظاهرة على الحق حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك.وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ إِلاَّ مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْناهُ فِي الدُّنْيا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ ۝ إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ ۝ وَوَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ
يَقُولُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى رَدًّا عَلَى الْكُفَّارِ فِيمَا ابْتَدَعُوهُ وَأَحْدَثُوهُ مِنَ الشِّرْكِ بِاللَّهِ، الْمُخَالِفِ لِمِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ إِمَامِ الْحُنَفَاءِ، فَإِنَّهُ جرد توحيد ربه تبارك وتعالى فلم يدعو مَعَهُ غَيْرَهُ وَلَا أَشْرَكَ بِهِ طَرْفَةَ عَيْنٍ، وتبرأ من كل معبود سواه وخالف فِي ذَلِكَ سَائِرَ قَوْمِهِ حَتَّى تَبَرَّأَ مِنْ أَبِيهِ، فَقَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ. إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ [الْأَنْعَامِ:78، 79]
وَقَالَ تَعَالَى: وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَراءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ. إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ [الزُّخْرُفِ:26، 27] وَقَالَ تَعَالَى: وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ [التَّوْبَةِ:114]
وَقَالَ تَعَالَى: إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ. شاكِراً لِأَنْعُمِهِ اجْتَباهُ وَهَداهُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ. وَآتَيْناهُ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ [النَّحْلِ:121، 122] وَلِهَذَا وَأَمْثَالِهِ قَالَ تَعَالَى: وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ عَنْ طَرِيقَتِهِ وَمَنْهَجِهِ فَيُخَالِفُهَا وَيَرْغَبُ عَنْهَا إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ.الشيخ: المقصود من هذا بيان أن ملة إبراهيم هي الملة التي ارتضاها الله  وهي ملة الرسل جميعًا وهي دينهم الذي بعثهم الله  وهو إخلاص العبادة لله وحده والبراءة من كل معبود سوى الله جل وعلا، كما قال في الآية الأخرى: قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ [الممتحنة:4]
هذا قول إبراهيم وقول الأنبياء جميعًا والرسل، وهذا دينهم البراءة من عبادة غير الله والبراءة من المعبودين من دون الله وإخلاص العبادة لله وحده فإبراهيم هو سيد الحنفاء وإمام الحنفاء وأبو الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بعده هذا دينه وهو دين الرسل من قبله وبعده قبله نوح وقبله هود وقبله صالح وبعده من لا يحصيهم إلا الله  من الأنبياء والرسل وهو قائدهم وإمامهم وأبوهم في هذا الباب العظيم.
ثم بعث الله أحد أحفاده وهو خاتم الأنبياء، وهو محمد عليه الصلاة والسلام وهو حفيده ومن ذريته يدعو لهذا الدين العظيم وإلى إخلاص العبادة لله وإلى ترك عبادة من سواه وهي البراءة من كل معبود سوى الله ، هكذا بعث الله نبيه محمد عليه الصلاة والسلام وقال له: ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [النحل:123] أوحى الله إليه أن يتبع ملة أبيه إبراهيم وأن يسير على نهجه في إخلاص العبادة لله وحده والبراءة من جميع المعبودات من دون الله فهذا هو دين الرسل جميعًا وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ [النحل:36] وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ [الأنبياء:25]
فالذي يختار غير هذا الدين ويرغب عنه هو الظالم لنفسه هو الجاهل السفيه الظالم لنفسه الذي ترك سبيل الهدى وسبيل الحق واختار سبيل الردى والضلالة وما فيه الهلاك في العاجل والآجل، فلا يفعل هذا ولا يختاره إلا من سفه نفسه وجهل حقيقتها وظلمها وألقاها في طريق الهلاك وحاد بها عن الحق والصواب فصار سفيهًا لها وظالماً لها ومعتد عليها نسأل الله العافية.
أَيْ ظَلَمَ نَفْسَهُ بِسَفَهِهِ وَسُوءِ تَدْبِيرِهِ بِتَرْكِهِ الْحَقَّ إِلَى الضَّلَالِ حَيْثُ خَالَفَ طَرِيقَ مَنِ اصْطُفِيَ فِي الدُّنْيَا لِلَّهِدَايَةِ وَالرَّشَادِ مِنْ حَدَاثَةِ سِنِّهِ إِلَى أَنِ اتَّخَذَهُ اللَّهُ خَلِيلًا، وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الصَالِحِينَ السعداء، فمن ترك طريقه هذا ومسلكه وملته، واتبع طريق الضَّلَالَةِ وَالْغَيِّ، فَأَيُّ سَفَهٍ أَعْظَمُ مِنْ هَذَا؟ أَمْ أَيُّ ظُلْمٍ أَكْبَرُ مِنْ هَذَا؟ كَمَا قال تعالى: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان:13] .
قال أَبُو الْعَالِيَةِ وَقَتَادَةُ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي الْيَهُودِ، أَحْدَثُوا طَرِيقًا لَيْسَتْ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وخالفوا ملة إبراهيم فيما أحدثوه، وَيَشْهَدُ لِصِحَّةِ هَذَا الْقَوْلِ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: مَا كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا وَلكِنْ كانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ۝ إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ [آلِ عِمْرَانَ:67-68] .الشيخ: والمعنى الرد على اليهود والنصارى حيث ادعوا أنهم على ملة إبراهيم وقد كذبوا فملة إبراهيم هي توحيد الله والإخلاص له والإيمان به واتباع ما بعث به أنبيائه من الهدى ودين الحق أما اليهود فقد حادوا عن ذلك واتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابًا من دون الله، وزعموا أن عزيرًا ابن الله، والنصارى حادوا عن ذلك أيضاً وتابعوا اليهود في اتخاذ أحبارهم ورهبانهم أربابًا من دون الله وزعموا أن عيسى هو الله أو ابن الله أو ثالث ثالثة فضل الجميع، ضلوا كلهم عن سواء السبيل، وهدى الله أمة محمد ﷺ الذين اتبعوه وساروا على نهجه فهم أولى الناس بإبراهيم، أولى الناس بإبراهيم من اتبعه من جن وإنس وعرب وعجم ومن حاد عن  سبيله ولو كان من أولاده فهو الهالك.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ أَيْ أَمَرَهُ الله بالإخلاص له وَالِاسْتِسْلَامِ وَالِانْقِيَادِ، فَأَجَابَ إِلَى ذَلِكَ شَرْعًا وَقَدَرًا.الشيخ: ومن هذا سمي المسلمون، المسلمون لماذا سموا مسلمون؟ لأنهم انقادوا للشرع استسلموا لشرع الله وانقادوا له ومن أسلم فقد انقاد للحق، ومن أبى فقد استكبر ولم يستسلم، فالمسلمون سموا مسلمين لهذا الأمر يقال: أسلم، يعني انقاد للحق وذل له وتابعه، فالمسلمون هم أتباع الحق الذين انقادوا له وعظموه وذلوا له وحكموه في أهوائهم وفي كل شيء هؤلاء هم المسلمون ولهذا قال تعالى: بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ [البقرة:112] فالمسلم هو الذي ينقاد لأمر الله ويعظم حرمات الله ويقف عند حدود الله ويخالف هواه في طاعة موالاه هذا هو المسلم، وإذا أبى فقد عاند واستكبر وصار مع الضالين ومع الكافرين الذين عاندوا الحق ولم ينقادوا له
ودين الرسل جميعًا هو الإسلام إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ [آل عمران:19] يعني الانقياد لله وإخلاص العبادة له وتوحيده وإفراده بالعبادة والانقياد لأحكامه والوقوف عند حدوده وعدم الخروج على ذلك فهذا هو دين الرسل جميعًا وكلهم مسلمون ودينهم هو الإسلام من أولهم آدم إلى آخرهم محمد عليهم الصلاة والسلام.
وَقَوْلُهُ وَوَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ أَيْ وَصَّى بِهَذِهِ الْمِلَّةِ، وَهِيَ الْإِسْلَامُ لِلَّهِ، أَوْ يَعُودُ الضَّمِيرُ عَلَى الْكَلِمَةِ وَهِيَ قَوْلُهُ: أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ لِحِرْصِهِمْ عَلَيْهَا وَمَحَبَّتِهِمْ لَهَا، حَافَظُوا عَلَيْهَا إِلَى حِينِ الْوَفَاةِ، وَوَصَّوْا أَبْنَاءَهُمْ بِهَا مِنْ بَعْدِهِمْ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَجَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ [الزُّخْرُفِ:28]
وَقَدْ قَرَأَ بَعْضُ السَّلَفِ  وَيَعْقُوبَ بِالنَّصْبِ عَطْفًا عَلَى بَنِيهِ، كَأَنَّ إِبْرَاهِيمَ وَصَّى بَنِيهِ وَابْنَ ابْنِهِ يَعْقُوبَ بْنَ إِسْحَاقَ وَكَانَ حَاضِرًا ذَلِكَ، وَقَدِ ادَّعَى الْقُشَيْرِيُّ فِيمَا حَكَاهُ الْقُرْطُبِيُّ عَنْهُ أَنَّ يَعْقُوبَ إِنَّمَا وُلِدَ بَعْدَ وَفَاةِ إِبْرَاهِيمَ، وَيَحْتَاجُ مِثْلُ هَذَا إِلَى دَلِيلٍ صَحِيحٍ
وَالظَّاهِرُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، أَنَّ إِسْحَاقَ وُلِدَ لَهُ يَعْقُوبُ فِي حَيَاةِ الْخَلِيلِ وَسَارَّةُ، لِأَنَّ الْبِشَارَةَ وَقَعَتْ بِهِمَا فِي قَوْلِهِ: فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ [هُودٍ:71]
وَقَدْ قُرِئَ بِنَصْبِ يَعْقُوبَ هَاهُنَا عَلَى نَزْعِ الْخَافِضِ، فَلَوْ لَمْ يُوجَدْ يَعْقُوبُ فِي حَيَاتِهِمَا لَمَا كَانَ لِذِكْرِهِ مِنْ بَيْنِ ذَرِّيَّةِ إِسْحَاقَ كَبِيرُ فَائِدَةٍ، وَأَيْضًا فَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْعَنْكَبُوتِ: وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ [العنكبوت:27]
وَقَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ نافِلَةً [الأنبياء:72] وهذا يقتضي أَنَّهُ وُجِدَ فِي حَيَاتِهِ، وَأَيْضًا فَإِنَّهُ بَانِي بَيْتَ الْمَقْدِسِ، كَمَا نَطَقَتْ بِذَلِكَ الْكُتُبُ الْمُتَقَدِّمَةُ.
وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيُّ مَسْجِدٍ وُضِعَ أَوَّلُ؟ قَالَ: الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ قُلْتُ: ثُمَّ أَيُّ؟ قَالَ بَيْتُ الْمَقْدِسِ، قُلْتُ: كَمْ بَيْنَهُمَا؟ قَالَ أَرْبَعُونَ سَنَةً الْحَدِيثَ، فَزَعَمَ ابْنُ حِبَّانَ أَنَّ بَيْنَ سُلَيْمَانَ الذِي اعْتَقَدَ أَنَّهُ بَانِي بَيْتَ الْمَقْدِسِ- وَإِنَّمَا كَانَ جَدَّدَهُ بَعْدَ خَرَابِهِ وَزَخْرَفَهُ- وَبَيْنَ إِبْرَاهِيمَ أَرْبَعِينَ سَنَةً، وَهَذَا مِمَّا أُنْكِرَ عَلَى ابْنِ حِبَّانَ، فَإِنَّ الْمُدَّةَ بَيْنَهُمَا تَزِيدُ على ألوف السنين، والله أعلم، وأيضا فإن وَصِيَّةِ يَعْقُوبَ لِبَنِيهِ سَيَأْتِي ذِكْرُهَا قَرِيبًا، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ هَاهُنَا مِنْ جُمْلَةِ الْمُوصينَ.الشيخ: والذي بنى مسجد القدس هو يعقوب حفيد إبراهيم أما سليمان فقد جاء متأخرًا وإنما سليمان عمَّره وجدده عليهم الصلاة والسلام جميعًا.
وَقَوْلُهُ: يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ أَيْ أَحْسِنُوا فِي حَالِ الْحَيَاةِ، وَالزَمُوا هَذَا لِيَرْزُقَكُمُ اللَّهُ الْوَفَاةَ عَلَيْهِ، فَإِنَّ الْمَرْءَ يَمُوتُ غَالِبًا عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ، وَيُبْعَثُ عَلَى مَا مَاتَ عَلَيْهِ، وَقَدْ أَجْرَى اللَّهُ الْكَرِيمُ عَادَتَهُ بأنه مَنْ قَصَدَ الْخَيْرَ وُفِّقَ لَهُ وَيُسِّرَ عَلَيْهِ، وَمَنْ نَوَى صَالِحًا ثَبَتَ عَلَيْهِ. وَهَذَا لَا يُعَارِضُ مَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ إِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إِلَّا بَاعٌ أَوْ ذِرَاعٌ، فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ فَيَدْخُلَهَا. وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إِلَّا بَاعٌ أَوْ ذِرَاعٌ، فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَيَدْخُلَهَا لِأَنَّهُ قَدْ جَاءَ فِي بعض روايات هذا الحديث ليعمل بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ فِيمَا يَبْدُو لِلنَّاسِ وَيَعْمَلُ أَهْلِ النَّارِ فِيمَا يَبْدُو لِلنَّاسِ.
وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى ۝ وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى ۝ فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى ۝ وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنى ۝ وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى ۝ فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى [الليل:5-10].الشيخ: والمعنى أن من اجتهد في الخير وحرص عليه وأخلص لله وقصد الهدى فالغالب أن من سنة الله   أن مثل هذا لا يكون إلا مؤمنًا ويوفق حتى يموت على الإسلام وهكذا العكس ولهذا قال : وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا ۝ وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ [الطلاق:2، 3] وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا [الطلاق:4] لكن بعض الناس قد يعمل بعمل أهل الجنة، وهو في الباطن في قلبه من الفساد والشر والنفاق ما فيه، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار الذي استقام عليه قلبه واطمأن إليه قلبه فيموت على ذلك نعوذ بالله، وهكذا العكس قد يعمل بعمل أهل النار وعنده من محبة الله وعنده من الرغبة في الخير ما عنده فيسبق عليه ما في قلبه من الهدى الذي سبق في علم الله فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها، وقد تكون هناك أسباب أخرى يختم له بها بخاتمة السوء وإن أظهر الخير قبل ذلك، لكن سنة الله الغالبة في عباده أن من أظهر الخير صادقًا ومخلصًا لله أن الله يميته عليه.أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قالُوا نَعبد إِلهَكَ وَإِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ إِلهاً واحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ۝ تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ
يَقُولُ تَعَالَى مُحْتَجًّا عَلَى الْمُشْرِكِينَ مِنَ الْعَرَبِ أَبْنَاءِ إِسْمَاعِيلَ وَعَلَى الْكُفَّارِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ- وَهُوَ يَعْقُوبُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ- بِأَنَّ يَعْقُوبَ لَمَّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ، وَصَّى بَنِيهِ بِعِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، فَقَالَ لَهُمْ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قالُوا نَعبد إِلهَكَ وَإِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَهَذَا مِنْ بَابِ التَّغْلِيبِ، لِأَنَّ إِسْمَاعِيلَ عَمُّهُ، قَالَ النَّحَّاسُ: وَالْعَرَبُ تُسَمِّي الْعَمَّ أَبًا، نَقَلَهُ الْقُرْطُبِيُّ.
وَقَدِ اسْتَدَلَّ بِهَذِهِ الآية الكريمة مِنْ جَعَلَ الْجِدَّ أَبًا وَحَجَبَ بِهِ الْإِخْوَةَ، كَمَا هُوَ قَوْلُ الصَّدِيقِ، حَكَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنْهُ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ الزُّبَيْرِ، ثُمَّ قَالَ الْبُخَارِيُّ: وَلَمْ يَخْتَلِفْ عَلَيْهِ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَتْ عَائِشَةُ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ، وَبِهِ يَقُولُ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَطَاوُسٌ وَعَطَاءٌ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَغَيْرِ واحد من السَّلَفِ وَالْخَلَفِ، وَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ فِي المشهور عنه أنه يقاسم الإخوة، وحكي ذلك عَنْ عُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَجَمَاعَةٍ مِنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ، وَاخْتَارَهُ صَاحِبَا أَبِي حَنِيفَةَ الْقَاضِي أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ، وَلِتَقْرِيرِهَا مَوْضِعٌ آخَرُ.الشيخ: وهذا الذي وصى به يعقوب عليه الصلاة والسلام بنيه هو الذي أوصى به أيضاً إبراهيم عليه الصلاة والسلام حيث قال فيما نقل الله عنه: يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [البقرة:132] فإبراهيم أوصى بنيه ويعقوب حفيده كذلك أوصى فإن يعقوب هو حفيد إبراهيم، وهو يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم وهو إسرائيل يسمى إسرائيل وهو عبدالله فكلاهما أوصى بنيه بأن يعبدوا الله وحده وأن يسلموا لربهم  وأن ينقادوا لأوامره ونواهيه ولهذا قال: مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي [البقرة:133] يذكرهم بتوحيد الله والإخلاص له قَالُوا نَعبد إِلَهَكَ وهو الله وحده  وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ [البقرة:133]
وهذه وصية الأنبياء جميعًا فالأنبياء كلهم يوصون بتوحيد الله والإخلاص له لأنهم بعثوا بهذا الأمر وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ [النحل:36] وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ [الأنبياء:25]
ويقول سبحانه: وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ [الزخرف:45]
فالله  بعث الرسل جميعًا إلى الخلق من الجن والإنس ليعبدوا الله وحده بدعائهم وخوفهم ورجائهم وصلاتهم وصومهم وإلى آخر عباداتهم وكان آدم عليه الصلاة والسلام وذريته على ذلك على توحيد الله والإخلاص له عشرة قرون كما قال ابن عباس رضي الله عنهما، حتى وقع الشرك في قوم نوح وغلوهم بالصالحين ود وسواع ويغوث ويعوق ونسر، فلما وقع الشرك في قوم نوح أرسل الله إليهم نوحًا عليه الصلاة والسلام، وهو أول رسول أرسله الله إلى أهل الأرض بعد وقوع الشرك وقبله آدم نبي، وجاء في بعض الروايات أنه نبي رسول ومكلم ومأمور ومنهي وله شريعة سارت ذريته عليها، والنبي يسمى رسول أيضاً كما قال تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى [الحج:52] فالنبي والرسول كلاهما مرسل إليه، والتحديد بالرسول والنبي  والفرق بينهما أن الرسول هو المستقل كموسى وإبراهيم ونوح وهود وصالح ومحمد ونحوهم، والنبي هو الذي جاء بشريعة غيره كعيسى وأنبياء بني إسرائيل جاءوا بشريعتهم (......) ويسمى النبي رسولا أيضاً.
وقال آخرون: إن الرسول هو الذي يوحى إليه بالشرع ويؤمر بالتبليغ والنبي يوحى إليه بالشرع ولكن لا يؤمر بالتبليغ، هذا هو المشهور عند الفقهاء، والأول أظهر أن الرسول هو المستقل (.......) وهو نبي أيضاً كنوح وهود وصالح وإبراهيم وموسى ومحمد عليهم الصلاة والسلام (......).
والنبي هو الذي يوحى إليه بشرع غيره ويكون تابعًا كأنبياء بني إسرائيل فإنهم تبع لمن قبلهم تبعا لشريعة التوراة، فالواحد منهم يسمى نبيًا ويسمى رسولاً، ولهذا قال تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ [الحج:52] فجعل النبي والرسول كلاهما مرسل إليه.
وفي قوله سبحانه: نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ [البقرة:133] دلالة على أن العم قد يسمى أبًا تغليبًا؛ لأنه قرين الأب وفي منزلة الأب فيطلق عليه الأب، يقول له ابن أخيه يا أبي من باب التكريم والاحترام.
وأما الجد فهو أب بنص القرآن الكريم في مواضع كثيرة يا بني آدم، يا بني إسرائيل، وآدم وإسرائيل ليسا آباءهم .. ولكنهم جدهم جد بني إسرائيل وهو يعقوب وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ [يوسف:38] فيوسف حفيدًا لإسحاق وحفيدًا لإبراهيم، والصواب أن الجد أب كما هو قول الصديق  وعائشة وابن عباس وبضعة عشر من أصحاب النبي ﷺ كلهم قالوا بأنه أب يسقط الإخوة. وهو مذهب أبي حنيفة وفي بعض الروايات عن أحمد رحمه الله، وهو الصواب وهو الحق الذي لا ريب فيه، وقد ذكره العلامة ابن القيم رحمه الله في كتابه الإعلام من عشرين وجهًا والمقصود أن هذا هو الحق، وأن الصواب أن الأب جد يسقط الإخوة لأن الله سماه أبًا وجاءت السنة بتسميته أبًا ولأنه بمنزلته عند فقده ويرث ميراثه، فيعطى السدس مع الفرع الوارث، ويرث عصبًا عند عدم الفرع الوارث، ويقوم مقامه في النكاح، وغير هذا من المسائل الكثيرة التي يقوم مقامه فيها، وهكذا هو في محله أيضاً في إسقاط الإخوة وعدم إرثهم معه.
وَقَوْلُهُ: إِلهاً واحِداً أَيْ نُوَحِّدُهُ بِالْأُلُوهِيَّةِ وَلَا نُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا غَيْرُهُ، وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ أَيْ مُطِيعُونَ خَاضِعُونَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ [آل عمران:83] وَالْإِسْلَامُ هُوَ مِلَّةُ الْأَنْبِيَاءِ قَاطِبَةً وَإِنْ تَنَوَّعَتْ شَرَائِعُهُمْ وَاخْتَلَفَتْ مَنَاهِجُهُمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ [الْأَنْبِيَاءِ:25]، وَالْآيَاتُ فِي هَذَا كَثِيرَةٌ وَالْأَحَادِيثُ فَمِنْهَا قَوْلُهُ ﷺ نَحْنُ مَعْشَرَ الْأَنْبِيَاءِ أَوْلَادُ عَلَّاتٍ دِينُنَا وَاحِدٌ .الشيخ: ومعنى "أولاد علات" يعني ضرائر، الأولاد من زوجات شتى وأبوهم واحد، وهكذا الأنبياء والرسل لكل منهم شريعة، ودينهم واحد وهو توحيد الله والإخلاص له والإيمان به والإيمان بملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وبالقدر خيره وشره وبالجنة والنار إلى غير ذلك؛ لكن الشرائع متنوعة، فهذا قد يشرع له كذا ويأمر بكذا وينهى عن كذا ....، وقد تأتي أوامر أخرى في الشرائع الأخرى كما في شريعة التوراة ..... شريعة عيسى فإن الله خفف عن بني إسرائيل من بعد عيسى عليه الصلاة والسلام وأحل لهم بعض ما حرم عليهم.
وهكذا شريعة محمد كانت أخف بما جاءت به شريعة التوراة وأيسر ووضع الله عن هذه الأمة الآصار والأغلال ولهذا قال تعالى: لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا [المائدة:48] فالشرائع متنوعة والدين واحد وهو توحيد والإخلاص له....، وكلهم دينهم الإسلام إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ والجهاد في الله والطاعة لله والتعبد لله .........